بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله المستعان على كل خير حمداً كثيراً مباركاً فيه
والصلاة والسلام على أشرف الخلق وإمام المرسلين محمداً بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين
اليوم إخوانى الكرام وتمديدا لدعوة فريق الخير
نقدم لكم سيرة هى أجمل السير فى تاريخ البشر سيرة لا تكفيها الكتب ولا الأقلام
سيرة سيد الخلق وحبيب الرحمن وخاتم النبيين وشفيع العالمين
محمداً بن عبد الله صلى الله عليه وسلم
نسبه ونشأته عليه صلوات ربى وسلامه
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نذار بن معد بن عدنان . إلى هنا معلوم الصحة . وما فوق عدنان مختلف فيه . ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب . والقول بأنه إسحاق باطل . ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة عام الفيل . وكانت وقعة الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته وإلا فأهل الفيل نصارى أهل كتاب دينهم خير من دين أهل مكة . لأنهم عباد أوثان . فنصرهم الله نصرا لا صنع للبشر فيه تقدمة للنبي الذي أخرجته قريش من مكة . وتعظيما للبلد الحرام . وقد اختلف المؤرخين في وفاة أبيه هل توفي بعد ولادته أو قبلها ؟ والأكثر على أنه توفي وهو حمل . ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة بالأبواء منصرفها من المدينة من زيارة أخواله . ولم يستكمل إذ ذاك ست سنين . فكفله جده عبد المطلب . ورق عليه رقة لم يرقها على أولاده . فكان لا يفارقه . وما كان أحد من ولده يجلس على فراشه - إجلالا له - إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقدم مكة قوم من بني مدلج من القافة . فلما نظروا إليه قالوا لجده احتفظ به . فلم نجد قدما أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه . فقال لأبي طالب اسمع ما يقول هؤلاء واحتفظ به . وتوفي جده في السنة الثامنة من مولده . وأوصى به إلى عمه أبي طالب ولكن أبى طالب أبى أن يدين بدين الحق خشية العار . ولما حضرته الوفاة . دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية - فقال يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقالا له أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل صلى الله عليه وسلم يرددها عليه وهما يرددان عليه حتى كان آخر كلمة قالها هو على ملة عبد المطلب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله تعالى ( 9 : 113 ) ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) ونزل قوله تعالى ( 38 : 56 ) (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء )
زواجه ونسائه صلى الله عليه وسلم
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة خرج إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله عنها ، ومعه ميسرة غلامها . فوصل بصرى . ثم رجع فتزوج عقب رجوعه خديجة بنت خويلد . وهي أول امرأة تزوجها ، وأول امرأة ماتت من نسائه . ولم ينكح عليها غيرها . وأمره جبريل " أن يقرأ عليها السلام من ربها ويبشرها ببيت في الجنة من قصب " . وباقى أمهات المسلمين هن: عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حبيب ، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، وسودة بنت زمعة بن قيس ، وزينب بنت جحش بن رئاب ، وميمونة بنت الحارث بن حزن وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، وصفية بنت حيي بن أخطب ، وزينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله . فهؤلاء اللاتي بنى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ، فمات قبله منهن أثنتان خديجة بنت خويلد ، وزينب بنت خزيمة . وتوفي صلى الله عليه وسلم عن تسع منهن .
بدء الوحي
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت أول ما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة . فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء . فكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد . قبل أن ينزع إلى أهله . ويتزود لذلك . ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجأه الحق ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ . قال فأخذني فغطني ، حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني . فقال اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني . فقال اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة . تم أرسلني ، فقال لي في الثالثة ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم ) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة بنت خويلد . فقال زملوني ، زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع . فقال لخديجة - وأخبرها الخبر - لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا . إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان قد تنصر في الجاهلية . وكان يكتب الكتاب العبراني . فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي . فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة يا ابن أخي ، ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى . فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ؟ قال أو مخرجي هم ؟ قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي . وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا فلم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا . حتى كان يذهب إلى رءوس شواهق الجبال يريد أن يلقي بنفسه منها ، كلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل عليه السلام ، فقال " يا محمد إنك رسول الله حقا " فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة تبدى له جبريل فيقول له ذلك . فبينما هو يوما يمشي إذ سمع صوتا من السماء . قال " فرفعت بصري . فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت إلى أهلي ، فقلت : دثروني . دثروني . فأنزل الله ( 73 : 1 ، 2 ) ( يا أيها المدثر قم فأنذر )" فحمي الوحي وتتابع " قال ابن القيم رحمه الله أول ما أوحى إليه ربه أن يقرأ باسم ربه الذي خلق . وذلك أول نبوته صلى الله عليه وسلم . فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره بالتبليغ . ثم أنزل الله عليه ( يا أيها المدثر قم فأنذر ) فنبأه باقرأ وأرسله بـ يا أيها المدثر ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين . ثم أنذر قومه . ثم أنذر من حولهم من العرب . ثم أنذر العرب قاطبة . ثم أنذر العالمين . فأقام بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة من غير قتال ولا جزية . ويأمره الله بالكف والصبر . ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال . ثم أمره أن يقاتل من قاتله ويكف عمن لم يقاتله . ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . ودخل الناس في دين الله واحدا بعد واحد . وقريش لا تنكر ذلك حتى بادأهم بعيب دينهم وسب آلهتهم وأنها لا تضر ولا تنفع . فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة . فحمى الله رسوله بعمه أبي طالب . لأنه كان شريفا معظما . وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها . وأما أصحابه فمن كان له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته وسائرهم تصدوا له بالأذى والعذاب . منهم عمار بن ياسر ، وأمه سمية وأهل بيته . عذبوا في الله . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم - وهم يعذبون - يقول صبرا يا آل ياسر . فإن موعدكم الجنة ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزايد أمره ويقوى ، ورأوا ما صنع أبو طالب به . مشوا إليه بعمارة بن الوليد . فقالوا : يا أبا طالب ، هذا أنهد فتى في قريش وأجمله . فخذه وادفع إلينا هذا الذي خالف دينك ودين آبائك فنقتله فإنما هو رجل برجل . فقال بئسما تسومونني ، تعطوني ابنكم أربيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ فقال المطعم بن عدي بن نوفل : يا أبا طالب قد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص منك بكل طريق . قال والله ما أنصفتموني ، ولكنك أجمعت على خذلاني . فاصنع ما بدا لك . وقال أشراف مكة لأبي طالب إما أن تخلي بيننا وبينه فنكفيكه . فإنك على مثل ما نحن عليه أو أجمع لحربنا . فإنا لسنا بتاركي ابن أخيك على هذا ، حتى نهلكه أو يكف عنا ، فقد طلبنا التخلص من حربك بكل ما نظن أنه يخلص . فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا ابن أخي ، إن قومك جاءوني ، وقالوا كذا وكذا ، فأبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني ما لا أطيق أنا ولا أنت . فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك . فقال صلى الله عليه وسلم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ، ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه فقال امض على أمرك ، فوالله لا أسلمك أبدا ودعا أبو طالب أقاربه إلى نصرته فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب ، غير أبي لهب ،
خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
ولما اشتد البلاء من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت عمه خرج إلى الطائف ، رجاء أن يؤوه وينصروه على قومه ويمنعوه منهم حتى يبلغ رسالة ربه . ودعاهم إلى الله عز وجل فلم ير من يؤوي ولم ير ناصرا ، وآذوه أشد الأذى . ونالوا منه ما لم ينل قومه . وكان معه زيد بن حارثة مولاه . فأقام بينهم عشرة أيام . لا يدع أحدا من أشرافهم إلا كلمه فقالوا : اخرج من بلدنا . وأغروا به سفهاءهم . فوقفوا له سماطين . وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه هي أشد وقعا من الحجارة . حتى دميت قدماه وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه فانصرف إلى مكة محزونا . وفي مرجعه دعا بالدعاء المشهور اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك ، أو ينزل بي سخطك . لك العتبى حتى ترضى . ولا حول ولا قوة إلا بك فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة - وهما جبلاها اللذان هي بينهما - فقال بل أستأني بهم . لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا فلما نزل بنخلة في مرجعه قام يصلي من الليل ما شاء الله فصرف الله إليه نفرا من الجن . فاستمعوا قراءته ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه ( 46 : 28 - 32 ) ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن - إلى قوله - أولئك في ضلال مبين ) وأقام بنخلة أياما . فقال زيد بن حارثة رضي الله عنه كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك ؟ - يعني قريشا - فقال يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا . وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه . ثم انتهى إلى مكة . فأرسل رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي أدخل في جوارك ؟ فقال نعم . فدعا المطعم بنيه وقومه فقال البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت . فإني قد أجرت محمدا . فلا يهجه أحد . فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه . وصلى ركعتين . وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي وولده محدقون به في السلاح حتى دخل بيته .
الإسراء والمعراج
ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت القدس راكبا على البراق صحبة جبريل عليه السلام . فنزل هناك . وصلى بالأنبياء إماما . وربط البراق بحلقة باب المسجد . ثم عرج به إلى السماء الدنيا . فرأى فيها آدم . ورأى أرواح السعداء عن يمينه والأشقياء عن شماله . ثم إلى الثانية . فرأى فيها عيسى ويحيى . ثم إلى الثالثة . فرأى فيها يوسف . ثم إلى الرابعة . فرأى فيها إدريس . ثم إلى الخامسة . فرأى فيها هارون . ثم إلى السادسة . فرأى فيها موسى . فلما جاوزه بكى . فقيل له ما يبكيك ؟ قال أبكي أن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي . ثم عرج به إلى السماء السابعة . فلقي فيها إبراهيم . ثم إلى سدرة المنتهى . ثم رفع إلى البيت المعمور . فرأى هناك جبريل في صورته له ستمائة جناح وهو قوله تعالى ( 53 : 13 - 14 ) ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) وكلمه ربه وأعطاه ما أعطاه . وأعطاه الصلاة . فكانت قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه وأخبرهم اشتد تكذيبهم له وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس . فجلاه الله له حتى عاينه . وجعل يخبرهم به . ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا . وأخبرهم عن عيرهم التي رآها في مسراه ومرجعه وعن وقت قدومها ، وعن البعير الذي يقدمها . فكان كما قال . فلم يزدهم ذلك إلا ثبورا . وأبى الظالمون إلا كفورا .
بيعة العقبة الأولى
فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة : ستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج . منهم أسعد بن زرارة وجابر بن عبد الله بن رئاب السلمي . فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا . ثم رجعوا إلى المدينة ، فدعوا إلى الإسلام . فنشأ الإسلام فيها ، حتى لم تبق دار إلا ودخلها . فلما كان العام المقبل جاء منهم اثني عشر رجلا - الستة الأول . خلا جابرا - ومعهم عبادة بن الصامت ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وغيرهم . الجميع اثنا عشر رجلا . وكان الستة الأولون قد قالوا له - لما أسلموا - إن بين قومنا من العداوة والشر ما بينهم . وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسندعوهم إلى أمرك . فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ، وكان الأوس والخزرج أخوان لأم وأب . أصلهم من اليمن من سبأ . وأمهم قيلة بنت كاهل - امرأة من قضاعة - ويقال لهم لذلك أبناء قيلة . ووقعت بينهم العداوة بسبب قتيل فلبثت بينهم الحرب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأها الله بالإسلام . وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قوله ( 3 : 103 ) ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) . فلما جاءه الاثني عشر رجلا العام الآتي - الذين ذكرنا - ومنهم اثنان من الأوس : أبو الهيثم وعويم بن ساعدة والباقي من الخزرج . فلما انصرفوا بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام .
الهجرة إلى المدينة
وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الهجرة إلى المدينة . فبادروا إليها . وأول من خرج أبو سلمة بن عبد الأسد ، وزوجته أم سلمة . ولكنها حبست عنه سنة وحيل بينها وبين ولدها . ثم خرجت بعد هي وولدها إلى المدينة . ثم خرجوا أرسالا ، يتبع بعضهم بعضا . ولم يبق منهم بمكة أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي - أقاما بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما - وإلا من احتبسه المشركون كرها . وأعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج . وأعد أبو بكر جهازه . فلما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا بأهليهم إلى المدينة : عرفوا أن الدار دار منعة وأن القوم أهل حلقة وبأس فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيشتد أمره عليهم . فاجتمعوا في دار الندوة . وحضرهم إبليس في صورة شيخ من أهل نجد . فتذاكروا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار كل منهم برأي والشيخ يرده ولا يرضاه إلى أن قال أبو جهل قد فرق لي فيه برأي ما أراكم وقعتم عليه قالوا : ما هو ؟ قال أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاما جلدا . ثم نعطيه سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل . فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع ولا يمكنها معاداة القبائل كلها ، ونسوق ديته . فقال الشيخ لله در هذا الفتى . هذا والله الرأي . فتفرقوا على ذلك . فجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك . وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة . وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار - في ساعة لم يكن يأتيه فيها - متقنعا ، فقال " أخرج من عندك " فقال إنما هم أهلك يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله قد أذن لي في الخروج " فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله . قال " نعم " فقال أبو بكر فخذ - بأبي أنت وأمي - إحدى راحلتي هاتين فقال " بالثمن
وأمر عليا أن يبيت تلك الليلة على فراشه . واجتمع أولئك النفر يتطلعون من صير الباب ويرصدونه يريدون بياته ويأتمرون أيهم يكون أشقاها ؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم . فأخذ حفنة من البطحاء فذرها على رءوسهم وهو يتلو ( 36 : 9 ) ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) وأنزل الله ( 8 : 30 ) ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر . فخرجا من خوخة في بيت أبي بكر ليلا . فجاء رجل فرأى القوم ببابه فقال ما تنتظرون ؟ قالوا : محمدا . قال خبتم وخسرتم قد والله مر بكم وذر على رءوسكم التراب . قالوا : والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم . فلما أصبحوا : قام علي رضي الله عنه عن الفراش فسألوه عن محمد ؟ فقال لا علم لي به . ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثور ، فنسجت العنكبوت على بابه . وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي وكان هاديا ماهرا - وكان على دين قومه - وأمناه على ذلك وسلما إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث . وجدت قريش في طلبهما ، وأخذوا معهم القافة حتى انتهوا إلى باب الغار . فوقفوا عليه . فقال أبو بكر يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا . فقال " ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ لا تحزن إن الله معنا وكانا يسمعان كلامهم إلا أن الله عمى عليهم أمرهما . وعامر بن فهيرة يرعى غنما لأبي بكر ويتسمع ما يقال عنهما بمكة . ثم يأتيهما بالخبر ليلا . فإذا كان السحر سرح مع الناس .قالت عائشة فجهزناهما أحث الجهاز . وصنعنا لهما سفرة في جراب . فقطعت أسماء بنت أبي بكر . قطعة من نطاقها ، فأوكت به فم الجراب وقطعت الأخرى عصاما للقربة . فبذلك لقبت " ذات النطاقين " . ومكثا في الغار ثلاثا . حتى خمدت نار الطلب . فجاءهما ابن أريقط بالراحلتين فارتحلا ، . وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة . قال ابن عباس : كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فأمر بالهجرة . وأنزل الله عليه ( 17 : 80 ) ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان . فسأل الله سلطانا نصيرا ، فأعطاه . قال البراء . : أول من قدم علينا : مصعب بن عمير ، وابن أم مكتوم ، فجعلا يقرآن الناس القرآن . ثم جاء عمار بن ياسر ، وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكبا . ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فما رأيت الناس فرحوا بشيء فرحهم به حتى جعل النساء والصبيان والإماء يقلن قدم رسول الله جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أنس شهدته يوم دخل المدينة ، فما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوأ من اليوم الذي دخل المدينة علينا . وشهدته يوم مات . فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فأقام في بيت أبي أيوب حتى بنى حجره ومسجده . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو في منزل أبي أيوب - زيد بن حارثة وأبا رافع . وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة ، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه . وسودة بنت زمعة زوجه وأسامة بن زيد ، وأم أيمن . وأما زينب فلم يمكنها زوجها أبو العاص بن الربيع من الخروج وخرج عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر . وفيهم عائشة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ستة عشر شهرا ، قبل اليهود . وكان يحب أن يصرفه الله إلى الكعبة . وقال لجبريل ذلك . فقال إنما أنا عبد . فادع ربك واسأله . فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه ( 2 : 144 - 1 ) ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) . وكان في ذلك حكمة عظيمة ومحنة للناس مسلمهم وكافرهم . فأما المسلمون فقالوا ( 3 : 6 ) (آمنا به كل من عند ربنا ) وهم الذين هدى الله ولم تكن بكبيرة عليهم .
حجة الوداع
فلما دخل ذو القعدة تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحج وأمر الناس بالجهاز له . وأمرهم أن يلقوه . فخرج معه من كان حول المدينة وقريبا منها . وخرج المسلمون من القبائل القريبة والبعيدة حتى لقوه في الطريق وفي مكة ، وفي منى وعرفات . وجاء علي من اليمن مع أهل اليمن . وهي حجة الوداع . فخرج لها لخمس بقين من ذي القعدة في آخر سنة عشر . فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي . فأرى الناس مناسكهم وعلمهم سنن حجهم . وهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم ويكرر عليهم أيها الناس خذوا عني مناسككم . فلعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا . ولما كان بمنى خطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين " فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال أيها الناس اسمعوا قولي . فإني لا أدري ، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا . أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم . وكل ربا موضوع . وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب . فإنه موضوع كله . وإن كل دم في الجاهلية موضوع وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب . وإني تركت فيكم ما إنتمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا - كتاب الله وسنتى - وأنتم مسئولون عني . فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت الرالة ، وأديت الأمانة ، ونصحت الأمة . فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول اللهم اشهد - ثلاث مرات وكانت هذه الحجة تسمى " حجة الوداع " لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعدها . فلما انقضى حجه رجع إلى المدينة . فأقام صلى الله عليه وسلم بقية ذي الحجة والمحرم وصفر . ثم ابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي مات فيه في آخر صفر .
مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : حدثت عن أسامة قال لما ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة . فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصمت فلا يتكلم . وجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي . أعرف أنه يدعو لي . قال ابن إسحاق : حدثت عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل . فقال يا أبا مويهبة قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع . فانطلق معي . فانطلقت معه . فلما وقف عليهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فما أصبح الناس فيه . أقبلت الفتن مثل قطع الليل المظلم يتبع أخراها أولاها ، الآخرة شر من الأولى . ثم أقبل علي فقال إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها . فخيرت فيها بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة . فقلت : بأبي أنت وأمي ، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا وتخلد فيها ، ثم الجنة . قال لا والله يا أبا مويهبة . قد اخترت لقاء ربي والجنة . ثم استغفر لأهل البقيع ، ثم انصرف . فبدأ به وجعه . فلما استعز به دعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها ، فأذن له .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله . فبكى أبو بكر فتعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير . وكان أبو بكر أعلمنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر . ولو كنت متخذا خليلا - غير ربي - لاتخذت أبا بكر خليلا . ولكن أخوة الإسلام ومودته . لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر .
وفي الصحيح أن ابن عباس وأبا بكر مرا بمجلس للأنصار وهم يبكون فقالا : ما يبكيكم ؟ قالوا : ذكرنا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم منا فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم . فأخبره بذلك . فخرج وقد عصب على رأسه بحاشية برد . فصعد المنبر - ولم يصعده بعد ذلك اليوم - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أوصيكم بالأنصار خيرا . فإنهم كرشي وعيبتي . وقد قضوا الذي عليهم . وبقي الذي لهم . فاقبلوا من محسنهم . وتجاوزوا عن مسيئهم . وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال اشتد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس . قالت عائشة يا رسول الله إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر ؟ قال مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فعادت . فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف . فأتاه الرسول . فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قالت ووالله ما أقول إلا أني أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر وعرفت أن الناس لا يحبون رجلا قام مقامه أبدا ، وأن الناس سيتشاءمون به في كل حدث كان . فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر .
موت رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الزهري : حدثني أنس قال كان يوم الاثنين الذي قبض فيه رسول الله خرج إلى الناس وهم يصلون الصبح فرفع الستر وفتح الباب . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقام على باب عائشة . فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم - فرحا به حين رأوه وتفرجوا عنه - فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم قال وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورا ، ولما رأى من هيئتهم في صلاتهم . وما رئي أحسن منه تلك الساعة . قال ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أنه قد أفرق من وجعه . وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم قال ابن إسحاق : قال الزهري حدثني سعيد بن الم عن أبي هريرة قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر . فقال إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات ولكنه قد ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران . فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل مات . ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حين كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات . قال وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد . حين بلغه الخبر - وعمر يكلم الناس - فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى في ناحية البيت عليه برد حبرة . فأقبل حتى كشف عن وجهه . ثم أقبل عليه فقبله . ثم قال بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتبها الله عليك : فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا . ثم رد البرد على وجهه . وخرج - وعمر يكلم الناس - فقال على رسلك يا عمر أنصت . فأبى إلا أن يتكلم . فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس . فلما سمع الناس كلام أبي بكر أقبلوا عليه وتركوا عمر فحمد الله تعالى وأثنى عليه . ثم قال أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا . فإن محمدا قد مات . ومن كان يعبد الله تعالى ، فإن الله حي لا يموت . قال ثم تلا هذه الآية ( 3 : 144 ) ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)
قال فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ قال وأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم . قال أبو هريرة فقال عمر فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها . فعثرت حتى وقعت إلى الأرض . ما تحملني رجلاي فاحتملني رجلان وعرفت أن رسول الله قد مات
بأبى أنت وأمى وروحى ياحبيبى يارسول الله
اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمداً وعلى آله وصحبه وسلم